Tuesday, August 1, 2017



بعد قصيدة رمزية عن الكفاح افتتح بها مالك بن نبي كتابه شروط النهضة مرّ إلى الكلام عن الملاحم والبطولات الشعبية في التاريخ الإنساني مسلطا الضوء على فكرة مهمة مفادها أن الأبطال يهبّون للدفاع عن شعوبهم بدافع عقدي أو دافع الشرف لا بالالتفات نحو المشاكل الاجتماعية التي مهّدت الطريق للاستعمار ليبطش بالأمة ويسلبها حريتها ومقدّراتها. التفاتة كتلك تحتاج توفيقا إلهيا وبصيرة نافذة توفّرتا في رجل من أقصى الشرق وبالضبط من بلاد الأفغان يدعى "جمال الدين الأفغاني"، ذاك الذي مزّق حجب الجهل والدروشة بكلماته التي كانت بمثابة صرخة هزّت أوصال الأمة الإسلامية و أيقظتها من غفلتها لتنبذ مظاهر الطربوش والزردة و الحروز التي أصبحت أمرا معتادا.. وهنا بالذات يأخذ الأستاذ ابن نبي المثال الجزائري و بالضبط التجربة الإصلاحية 1925 التي كانت بمثابة المنارة التي كشفت طريق النهوض أمام الأمة الصاحية لتوّها من سباتها العميق، محوّلة البطولات الفردية والانتفاضات المتناثرة إلى ثورة شعب بأكمله.. ورغم إعجابه وامتنانه للإصلاحيين متمثلين في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلا أنه لم يجد حرجا في نقدهم حين أعمتهم أنوار عالم السياسة القذر والخداع و سحَرهم سرابها، لتستبدل الزردات الصوفية بالزردات الانتخابية والحروز إلى أوراق انتخاب ومظاهر الدعاء عند القبور بانكشاف الغمة إلى المطالبات بالحقوق وغض الطرف عن تأدية الواجبات التي يرى أنها دائما أسبق من طلب الحقوق .
كما يورد فيلسوف الانسان والحضارة تشبيهاً رائعا حين يشبّه العالم الإسلامي بمريض يتّجه لصيدلية يشكو مرضه المجهول، ليعطيه السياسي أقراصا مهدئة للأوجاع السياسية ويعطيه الفقيه كبسولات ضد الأعراض العقدية .. إلخ دون وجود بحث ممنهج عن أصل العلّة و مكمن الداء لتتم معالجته مباشرة بدل علاج الأعراض الذي يخفيها مؤقتا قبل أن تنفجر مجددا وبشكل أسوأ .
ومن القواعد المهمة التي صاغها الأستاذ مالك في مؤلفه الدسم هذا قاعدة "إن الحضارة هي تلد منتجاتها وليس العكس" أي أن تكديس منتجات حضارة ما (تكنولوجيا، فلسفات، آداب، فنون، علوم...) لن يقودنا لبناء حضارة مشابهة لها أبداً، بل علينا احترام السنن الإلهية في الكون والتي يصوغها حسب رؤيته في المعادلة التالية:
إنسان + تراب + وقت = ناتج حضاري [في وجود الفكرة الدينية*]
ويعتبر الفكرة الدينية بمثابة الصاعق الذي لا مناص من وجوده لحدوث التفاعل كونها (حسب رأيه دائما) قادرة على إخضاع الغرائز الإنسانية و تنظيمها (لا القضاء عليها) ومع إقلاع الحضارة وانتشارها زمكانيا تواجه مشاكل و عوائق لا متناهية تؤدي لخفوت النّفَس الروحيّ تدريجيا و تعاظم دور العقل إيذانا ببداية الفترة الثانية المستقرة من الحضارة (بعد مرحلة الاندفاع الروحية الأولى)، إلى أن تتحررّ الغرائز تدريجيا بسبب توفّر الملذات و تيسّر الحياة بفعل الثورة العقلية، و تمثّل مرحلة الغريزة هذه بداية الأفول الحضاري و تنذر بقرب نزول الأمة من على مسرح التاريخ مفسحة الخشبة لأمة في مرحلتها الروحية الأولى لتبدأ الدورة من جديد.
أما بقية الكتاب فيخصصها الكاتب -رحمة الله عليه – للكلام عن "التوجيه المدروس للعناصر الثلاثة بمعادلة الحضارة التي سبق ذكرها"

1. بدءا بالإنسان وبالضبط الثقافة وضرورة تنقيتها وتصفيتها من الشوائب والأفكار السلبية العالقة بها (مرحلة التخلية) قبل الشروع في تعزيز الجوانب الإيجابية والعمل على تنمية المفاهيم والقيم الراقية وتفعيلها في حياة الفرد (مرحلة التحلية). لأجل ذلك يعمل على تحديد العناصر الجوهرية للثقافة التي ينبغي العمل عليها والتي يُجملها في:
¶ الدستور الخلقي: وهو الذي يصوغ العلاقات والأخلاق ويهذب الغرائز قصد تنظيم العلاقات داخل المجتمع وتكون عادة دينية ذات بعد روحي.
¶ الذوق الجمالي: باعتبار الجمال الخارجي (في الوسط الاجتماعي) ينعكس على النفسية وبالتالي الأفكار والأفعال في المجتمع.
¶ المنطق العملي: هذا بالذات الذي ينقص عالمنا، فالمسلم يفكّر ليقول كلاما مجرداً لا ليغيّر واقعه، بكلمة أخرى فاعلية شبه معدومة.
¶ الصناعة: بمعناها الفضفاض الذي يشمل كل الفنون والمهن والقدرات التي يمكن للشخص القيام بها.

2. ثم التراب وقيمته الاجتماعية التي ترتفع بتقدّم الأمّة وتنخفض بانحطاطها ويدلّل على ذلك بمشكلة التصحر التي تجتاح الجزائر كمثال، ويناقش تأثير هذه الظاهرة على الحياة الاقتصادية (التحول نحو الرعي) قبل أن يختم بالدعوة إلى التجند لمواجهة هذه المشكلة الخطيرة بالدراسة الجادة والعمل الدؤوب لإيقافها وتحقيق المعجزة قبل فوات الأوان.
[لن نستطيع انقاذ ذريتنا من الأجيال القادمة إلا بالعمل الشاق الذي يقوم به جيلنا الحاضر، وعندما تتحقق تلك المعجزة التي تكون بانتصارنا على أنفسنا، وعلى أهوال الطبيعة، فإننا سوف نرى أية رسالة في التاريخ نحن منتدبون إليها ..]

3. و أخيراً عامل الوقت الذي يتألمّ لكون المسلم لا يحسّ بقدسيّته و يضيعه هباء منثوراً بدل ربطه بمعنيي التأثير و الإنتاج كما تفعل الشعوب المتحضرة، و يدعو إلى تحسيس الفرد المسلم بقيمة هذا الأمر عن طريق التربية .. [إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب.]

و قبل أن يختم فيلسوفنا كتابه يعرّج بنا على موضوع شائك و مهمّ للغاية سكّ له مصطلحاً أصبح يُعرف به هو مصطلح القابلية للاستعمار ويقصد به أن التملّص من المسؤولية عن حالنا و رميها على ظلم الاستعمار وحده هو تهرّب أحمق من أخطائنا، فيعتبر أن الفرد المسلم بخموله و سلبيته التي لازمته منذ سقوط الدولة الموحّدية أصبح فريسة سهلة ومغرية لكل القوى العالمية و للخروج من مستنقعه هذا عليه التعاطي مع هذه الحقيقة و العمل على علاجها بدل سياسة الإنكار و الهروب إلى الأمام التي تزيد الأوضاع تعقيداً يوما بعد يوم. [أخرجوا المستعمِر من أنفسكم يخرج من أرضكم].

مراجعتي لكتاب شروط النهضة

Read More

Copyright © 2014 Faeda فائدة | Designed With By Blogger Templates
Scroll To Top