Showing posts with label التاريخ الإسلامي. Show all posts
Showing posts with label التاريخ الإسلامي. Show all posts

Tuesday, August 2, 2016

   


كثيرا ما نسمع عبارة "فلان سابق لعصره" كتعبير عن فطنته وذكائه المتّقد، كونه ناقش مسائل لم تكن معروفة للناس حينها، أو طرح تصوّراته لتفسيرات وحلول لمشكل معيّن في زمن ما، فانفضّ الناس من حوله هذا ان التفتوا له أصلاً، لتثبت الأيام بعدها أنه كان عبقريا حقًّا وهم الذين لم يفهموه ولم يقدروه حق قدره.. هؤلاء العظماء كُثرٌ في التاريخ الإنساني بل أغلب العظماء ذلك شأنهم وربما كان أعظمهم أرسطو، ذلك الفيلسوف اليوناني الفريد.

من طينة هؤلاء الأفذاذ كان ابن مدينة الجسور المعلّقة "قسنطينة" الجزائريّة 'مالك بن نبي' (1905-1973م) أو "فيلسوف الانسان والحضارة" كما يحلو للبعض تسميته. هو أحد أبرز روّاد النّهضة الفكريّة الإسلامية في القرن العشرين (20) ويُعدّ الفكر البنّابي امتداداً لفكر المنارة الشّامخة ابن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة.

لنلق نظرة على ميزة مالك بمنظوره هو كما يرويه في مذكّراته "مذكرات شاهد للقرن" فيقول: « كان مولدي بالجزائر 1905 في زمن يمكن فيه الاتّصال بالماضي عن طريق آخر من بقي حيا من شهوده، والإطلال على المستقبل عبر الأوائل من روّاده » فهو يمكن القول أنه مخضرم عاش فترة البطش الفرنسي بالشعب الجزائري الذي كان يئنّ تحت وطأة الاستدمار ولاقى خلالها الويلات، كما شهد الارتدادات الأولى لصرخة جمال الدين الأفغاني التي مزّقت حجب الظلام التي دثّرت العالم الإسلامي ككلّ والجزائر خاصّة.. لكنه عاش أيضا عايش الثّورة التحريرية المباركة ودعمها بالقلم والقلب قبله، واكتحلت عيناه برؤية الجزائر حرّة مستقلة. لنسمع مفكّرنا وفيلسوفنا يصف مِفصلًا يراه أساسيا في تاريخنا الاسلامي -من كتابه شروط النهضة- « ففي هدأة الليل، وفي سبات الأمة الاسلامية العميق، انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حيّ على الفلاح!   فكان رجعهُ في كلّ مكان، إنّه صوت "جمال الدّين الأفغاني" موقظ هذه الأمة. هي نهضة جديدة ويوم جديد». فكأنّ ذلك النّداء الخالد قد حرّك في نفس المراهق ذلك السؤال الذي طالما أرّق كبار المفكرين العرب والمسلمين كأمير البيان شكيب أرسلان والإمام الغزالي والكواكبي وبيغوفتش "لماذا آل الوضع لهذا السقوط المريع؟ أو لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وكيف السبيل لإعادة ضبط البوصلة لنقفز مجددا لمسرح التاريخ؟" فكان توجه ابن الكُتّاب المُعدَم إلى التأمّل والكتاب والبحثِ الدؤوب، فكانت بداية لرحلة قادته لسبر أغوار عديد المؤلفات الغربيّة والاسلاميّة في الفلسفة والعلوم الانسانية فكشف خباياها وظواهرها، مزاياها ونقائصها، لبّها وقشورها. وقد كان من أقدار الله تقدّم صاحب مؤلّف "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" إلى معهد الدراسات الشرقية بباريس الذي كانت تحت إشراف المستشرق الفرنسي العنصري لويس ماسينيون عرّاب السياسة الاستعمارية الفرنسية الذي رفض قبول ابن نبي لكونه يحمل مفاهيم عميقة ورؤى أصيلة متشرّبة لروح القرآن تناقش قضايا هامة كالإنسان والحضارة خصوصا كونها تنأى بنفسها عن التّبعية المطلقة لمبادئ ومعايير الفكر الأوربي، ذلك الطرد كان بداية لتحدّ ومعركة مريرة خاضها مالك ضد السّلطات الاستعمارية حتى نهاية حياته. شاءت الأقدار أيضا أن يدفع ذلك الطّرد مالك لدراسة الهندسة الكهربائية، التي وبعد تخرّجه لم يستطع العمل بها بسبب تضييق السلطات الاستعمارية، فتفرّغ للكتابة و عالم الأفكار وصناعتها، هنا بدا تأثير دراسته العلميّة جليّا في كتاباته التي امتازت عن غيرها بإخضاعها علوم الاجتماع، علم النّفس والسياسة وغيرها من علوم إنسانية لقوانين رياضيّة وفيزيائيّة محضة، فكان مخبره مليئا بعينات تجارب إنسانية متباينة وأنابيب الأفكار المنتقاة من كتب التاريخ، منتجا بذلك معادلات تشبه تلك المعادلات الكيميائية، كانت تبسيطا لأفكاره المعقدة والدقيقة، دمجٌ أخرج للنور فكراً متسقاً متماسكاً منطقياً إلى أبعد حدّ أدركت إدارة شؤون المستعمرات تأثيره إن هو انتشر في المستعمرات، فزادت من ضغطها عليه ليخرج من فرنسا إلى مصر ليُكمل مسيرةَ قلم أبى التراجع عمّا آمن به حتى النخاع.

كتب تلميذ ابن خلدون حوالي 30 مؤلفاً -بالفرنسية والعربية- في سلسلة تحت عنوان "مشكلات الحضارة" نذكر منها:"شروط النهضة"، "الظاهرة القرآنية"، "مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي" و"وجهة العالم الاسلامي".. من اللّافت أيضاً في قصة مالك أنه عرف أنه "سابق لعصره" حقاً! فهو القائل قبل وفاته « سأعود بعد ثلاثين سنةً، وسيفهمني الناس ». وهاهو فعلاً بعد أربعين سنة ونيّف يطفو الفكر البنّابي على السطح مجدداً وتعود كُتبه للتّداول من يدٍ ليدٍ، وأفكاره لتطرح وتناقش بين الشباب المسلم بعد كلّ هذه العقود! ما سرّ عدم موت أفكاره؟! ربما لأنّه أدرك حينها أن مشاكلنا لن تُحلّ بتلك الطرق السقيمة كَون « الحضارة هي التي تلد منتجاتها وليس العكس »  كما كان يردد دائما، أي أنّ استيراد الأفكار المَيّتة والمُمِيتة والسّلع المتنوعة لن يبني حضارة أبداً! بل تولد الحضارة من رحم الأفكار العظيمة المنبثقة من تراث الأمة الأصيل وواقعها المعاش وهي -أي الحضارة- التي تنتج الوسائل وتواجه المشاكل حينئذٍ.

مالك بن نبيّ يُبعَث من جديد

Read More

Saturday, August 29, 2015


كثيرا ما كانت الاحلام هى الدافع وراء العديد من الأفكار العظيمة في ميادين عدة كالرياضيات، العلوم والفيزياء التي يروى ان الجدول الدورى للعناصر الكيميائية قد جاء الى العالم الروسى” ديمترى مندليف” فى أحد أحلامه. كما يروي اينشتاين أن فكرة نظرية النسبية الشهيرة جاءت له في شكل رؤيا حيث رأى نفسه ينزلق من فوق جبل وظلت سرعة إنزلاقه تزداد حتى وصل إلى سرعة الضوء حينها بدأت النجوم تأخذ شكلاً مختلفاً بالنسبة له .كما أننا قرأنا أو على الأقل سمعنا عن العديد من الأعمال الأدبية الخالدة والروايات و الافلام السينمائية الشهيرة التي كانت رؤى لكاتبيها لتوصلهم للعالمية كرواية فرنكشتاين التي رأت أحداثها كاتبتها ماري شيلي في أحد أحلامها.

بل وتعدى الأمر ذلك فقد غيرت بعض الأحلام توجه الحروب والاحداث السياسية كحلم أدولف هتلر الذي رأى خلال معارك الحرب العالمية الثانية وبينما كان الزعيم الألماني النازي يأخذ قسطاً من النوم في أحد الخنادق شاهد رؤيا غريبة أن وحدته العسكرية تبتلعها الأرض ليستيقظ مرعوب افخرج ليتمشى بعيدا ليتفاجأ عند عودته بأشلاء رفاقه المتناثرة بعد أن سقطت قذيفة على الخندق أودت بهم، ومن التاريخ الحديث أيضا قصة الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن الذي رأى في المنام قبل اغتياله بأيام رؤيا عرف منه أنه سيتم اغتياله! فقد رأى لينكولن أنه يسمع أصوات بكاء وعويل في البيت الأبيض فظل يبحث –في الحلم-عن سبب هذا البكاء حتى وجده يصدر من إحدى الغرف وعندما فتحها وجد جثته مع مجموعة من من المشيعين وبعد هذه الرؤيا بأيام تم اغتيال ابراهام لينكولن..

أما إحدى أخطر تلك القصص على الإطلاق هي قصة محاولة صليبية بتنفيذ برتغالي لنبش قبر خاتم الأنبياء، سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم وسرقة جثمانه الطاهر ربما ليتم مبادلتها بالقدس ففي سنة 557 خلال حكم الملك الأسمر الشهيد نور الدين محمود زنكى بمصر هذا الملك الذي ظهر في أشد أحلك ظروف الأمة فقد كان الشيعة الرافضة يملكون أغلب بلاد الإسلام، ليوحد الصفوف ويقيم دولته التي امتدت من بلاد فارس شرقا إلى ليبيا غرباً ومن هضبة الأناضول شمالا إلى اليمن جنوبا.
وقد عرف الشهيد بتقواه وكان له ورد من الليل يقوم ويصلى وينام، فنام ليلة بعد تهجده فرأى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: أنقذنى من هذين، فاستيقظ فزعا فتوضأ وصلى ركعتين ونام فرأى الرؤيا نفسها أيضاً، فقام وتوضأ وصلى ركعتين ونام، فرأى نفس الرؤيا، وفى المرة الثالثة قال: لم يبق نوم، فقام فى الحال إلى وزيره جمال الدين الموصلى وأخبره بما رأى، فقال له: حدث شىء بالمدينة أرى أن تكتم ما رأيت ونخرج الآن إلى المدينة فخرج بعشرين من القادة صحبة الوزير ومعه أموال كثيرة، وقبل دخول المدينة اغتسل ودخل المسجد وصلى فى الروضة وزار، ثم جلس فى المسجد لا يدرى ماذا يصنع، وقد اجتمع إليه الناس، فقال الوزير: إن السلطان حضر للزيارة وأحضر معه أموالاً لتوزيعها على سكان المدينة النبوية فاكتبوا من عندكم وأحضروا أهل المدينة كلهم، فحضر الناس وجعل يوزع الأموال ويعطى الهدايا، وكل من حضر ليأخذ يتأمله السلطان ليجد فيه الصفة التى أراها له النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام وقد انطبعت فى ذهنه فلا يجد الصورة إلى أن انقضت الناس، فقال السلطان: هل بقى من أحد؟ قالوا: لا، فقال: تفكروا وتأملوا، فقالوا: لم يبق إلا رجلان مغربيان لا يتناولان من أحد شيئاً وهما صالحان غنيان يكثران من الصدقة وأعمال الخير. انشرح صدر السلطان، وقال: على بهما، فرآهما، فإذا هما الرجلان اللذان أشار إليهما النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: أنقذنى من هذين، فقال لهما: من أين جئتما؟ قالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجين فاخترنا المجاورة والسكن بالمدينة النبوية، فقال: أصدقانى، فصمما على ذلك، فقال: أين منزلهما؟ فأخبر بأنهما بمنزل قرب الحجرة الشريفة فأمسكهما وخرج إلى منزلهما فوجد مالا كثيراً ومصحفين وكتبا لاتينية فى الرقائق، ولم ير شيئاً، فأثنى عليهما أهل المدينة بالخير وبأدائهما للصلاة، وزيارة البقيع كل يوم، وقُباء كل سبت، وبقى السلطان حائراً يطوف بالبيت بنفسه فرفع حصيراً فى البيت فرأى تحته سرداباً محفوراً إلى جهة الحجرة الشريفة فارتاع الناس لذلك، فقال لهما السلطان: أصدقانى حالكما، فأصرا على حجتهما فضربهما ضربا شديدا ،فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زِيّ حجاج المغاربة ، وأمالوهما بالمال العظيم ليتحيّلا في الوصول إلى الجناب الشريف ونقله وما يترتب عليه ، فَنَزَلا قرب رباط وصارا يحفران ليلا ، ولكل منهما محفظة جلد ، والذي يجتمع من التراب يخرجانه في محفظتيهما إلى البقيع إذا خرجا بِعِلّة الزيارة ، فلما قرب من الحجرة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجف عظيم ، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة فلما ظهر حالهما بكى السلطان بكاء شديدا ، وأمر بضرب رقابهما ، فَقُتِلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة المسمى الآن شباك الجمال ، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم وحفر خندقا عظيما إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذاب ذلك الرصاص وملأ الخندق ، فصار حول الحجرة سور من رصاص إلى الماء.

الكاتب: جباري محمد ح 

الحلم المنسي الذي أنقذ جثمان خير الخلق -عليه الصلاة والسلام-

Read More

Thursday, August 27, 2015





وُلد محمد الفاتح في 27 من رجب 835هجريًا( 30 من مارس 1432ميلاديًا) في مدينة أدرنة، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سادس سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهَّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسؤولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلَّم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلَّم العربية والعثمانية والفارسية واللاتينية واليونانية والسلافية والاغريقية وهو لم يتجاوز 21 عاما.
عهد إليه أبوه بإمارة مغنيسيا وهو صغير السن ليتدرَّب على إدارة شؤون الدولة وتدبير أمورها، تحت إشراف مجموعة من كبار علماء عصره؛ مثل: الشيخ آق شمس الدين، والمُلَّا الكوراني، وبرز دور الشيخ آق شمس ذلك العالم الموسوعي -له كتب طبية بالتركية وقد شرح فيها انتقال الأمراض المعدية لأول مرة فعزاها إلى (بذور حية) لاترى بالعين المجردة- في تكوين شخصية محمد الفاتح، وبثَّ فيه منذُ صغره أمرين؛ هما: مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، والإيحاء دومًا لمحمدٍ منذُ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي (لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الجَيْشُ ذَلِكَ الجَيْشُ)*»
تولَّى السلطنة بعد وفاة أبيه في 5 من المحرم 855هـ، 7 من فبراير 1451م، وبدأ في التجهيز لفتح القسطنطينية، ليُحقِّق الحُلم الذي يُراوده، وفي الوقت نفسه يُسَهِّل لدولته الفتية الفتوحات في منطقة البلقان، ويجعل بلاده متصلة لا يفصلها عدوٌّ يتربَّص بها، وليكون هو محلَّ البشارة النبوية.
بذل السلطان محمد الفاتح جهودًا خارقة في مجال التخطيط لفتح القسطنطينية، كما بذل جهودًا كبيرة في دعم الجيش العثماني بالقوى البشرية، حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد، كما عنى بتدريب تلك الجموع على فنون القتال ومختلف الأسلحة، التي تؤهلهم للجهاد المنتظر، كما وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول على الجيش الذي يفتح القسطنطينية.

سيطر على مضيق (البسفور) حتى يمنع القسطنطينية من وصول أية مساعدات لها من أوروبا، فبنى قلعة كبيرة على الشاطئ الأوروبي من المضيق، واشترك بنفسه مع كبار رجال الدولة في أعمال البناء، ولم تمض 3 أشهر حتى تم بناء القلعة التي عرفت بقلعة (الروم)، ولم يعد ممكنًا لأي سفينة أن تمر دون إذن من القوات العثمانية».
في أثناء ذلك نجح مهندس نابغة أن يصنع للسلطان محمد الفاتح عددًا من المدافع، من بينها مدفع ضخم عملاق لم يُرَ مثله من قبل، كان يزن (700) طن، وتزن القذيفة الواحدة (1500) كيلو جرام، وتسمع طلقاته من مسافات بعيدة، ويجره مائة ثور يساعدها مائة من الرجال الأشداء وأطلق على هذا المدفع العملاق اسم (المدفع السلطاني)، وأعطى الفاتح عناية خاصة بالأسطول العثماني، وعمل على تقويته، وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، وذُكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة
فتح القسطنطينية
زحف السلطان محمد الفاتح ذو ال21 عاما إلى القسطنطينية فوصلها في 26ربيع الأول 857هـ، 6أبريل سنة 1453م، فحاصرها من البر بمائتين وخمسين ألف مقاتل، ومن البحر بأربعمائة وعشرين شراعًا، فوقع الرعب في قلوب أهل المدينة؛ إذ لم يكن عندهم من الحامية إلا خمسة آلاف مقاتل، معظمهم من الأجانب، وبقي الحصار 53 يومًا، لم ينفك العثمانيون أثناءها عن إطلاق القنابل.
وقد لجأ العثمانيون في المراحل المتقدمة من الحصار إلى طريقة جديدة ومبتكرة في محاولة دخول المدينة؛ حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من أماكن مختلفة إلى داخل المدينة، التي سمع سكانها في 16 مايو ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريج، فأسرع الإمبراطور البيزنطي بنفسه ومعه قُوَّاده ومستشاروه إلى ناحية الصوت، وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، وإلى جانب ذلك لجأ العثمانيون إلى طريقة جديدة في محاولة الاقتحام، وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وشحنت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار.

يذكر المؤرخ علي الصلابي في كتابه "فاتح القسطنطينية..السلطان محمد الفاتح" قصة مؤثرة حدثت في أحرج لحظات المعركة فبعدما حقق البيزنطيون نصرا مؤقتا ابتهج البيزنطيون بوصول مدد البابا إليهم وانتكست معنويات الجند المسلمين اجتمع قادة الجيش العثماني بالسلطان قائلين بأنه دفع بالجنود في معركة تكاد تكون مستحيلة مزولا عند طلب شيخٍ، فهلكت الجند وتحطم كثير من العتاد وبلغت العدو تعزيزات كبيرة
فأرسل السلطان إلى خيمة معلمه يسأله الحل فأجابه (لابد من أن يمن الله بالفتح) لكن السلطان لم يقتنع فأرسل إلى شيخه مجددا فكتب إليه ردا أراح السلطان وقادة جنده لذلك زار محمد خيمة شيخه ليعلمه دعاء ليوفقه الله فعلمه ليخرج على القادة ويعطي أوامره بمواصلة القتال لكن الفاتح أراد أن يكون شيخه شمس الدين بجانبه عند الهجوم فذهب ليصطحبه من خيمته لكن حرس الخيمة منعوه من دخولها امتثالا لأوامر الشيخ فثار الفاتح واستل خنجره وشق جدار الخيمة في أحد جوانبها ليرى شيخه ساجدا وعمامته متدحرجة من على رأسه ودموعه تجري راجيا الله الفتح القريب ليعود الفاتح إلى مقر القيادة وكان ذلك يوم الثلاثاء الموافق 20من جمادى الأولى 827 = 29 من مايو 1453 م، ليشاهد أن القوات العثمانية نجحت في اقتحام الأسوار، وزحزحة المدافعين عنها بعد أن عجزوا عن الثبات، واضطروا للهرب والفرار، وفوجئ أهالي (القسطنطينية) بأعلام العثمانيين ترفرف على الأسوار، وبالجنود تتدفق إلى داخل المدينة
دخل السلطان محمد الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون: ما شاء الله، فالتفت إليهم وقال: لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية، الذين أخبر عنهم رسول الله، وهنأهم بالنصر، ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس، والإحسان إليهم. ثم ترجل عن فرسه، وسجد لله على الأرض شكرًا وحمدًا وتواضعًا، ثم قام وتوجه إلى كنيسة آيا صوفيا، واجتمع بها خلقٌ كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان، الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، فلما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها ووجلوا وجلاً عظيمًا، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له، فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس، وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة، فلما رأوا تسامح محمد الفاتح وعفوه، خرجوا وأعلنوا إسلامهم

استكمال الفتوحات
بعد إتمام هذا الفتح الذي حَقَّقه محمد الثاني -وهو لا يزال شابًّا لم يتجاوز الخامسة والعشرين- اتَّجه إلى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان، ففتح بلاد الصرب، والمورة باليونان، وبلاد الفلاخ الرومانية بعد أن هزم ملكها السفاح **دراكولا** (ودراكولا هذا هو نفسه المشهور في الأفلام مصاص الدماء الشهير ومما لم أكن أعلمه شخصيا أن الفاتح هو من قتل هذا المجرم) والبغدان (رومانيا)، وألبانيا، البوسنة والهرسك ودخل في حرب مع المجر،، كما اتجهت أنظاره إلى آسيا الصغرى، ففتح طرابزون.
وقد كان من بين أهداف محمد الفاتح أن يكون إمبراطورًا على روما، وأن يجمع فخرًا جديدًا إلى جانب فتحه القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية؛ ولكي يُحَقِّق هذا الأمل الطموح كان عليه أن يفتح إيطاليا، فأعدَّ لذلك عُدَّتَه، وجهَّز أسطولًا عظيمًا، وتمكَّن من إنزال قوَّاته وعدد كبير من مدافعه بالقرب من مدينة (أوترانت)، ونجحت تلك القوات في الاستيلاء على قلعتها، وذلك في (جمادى الأولى 885هـ= يوليو 1480م، لكن وافته المنية قبل أن يكمل ما بدأه.
وكان من عادة الفاتح أن يحتفظ بالجهة التي يقصد فتحها، ويتكتَّم أشدَّ التكتُّم، ويترك أعداءه في غفلة وحيرة من أمرهم، لا يدري أحدهم متى تنزل عليه الضربة القادمة، ثم يتبع هذا التكتُّم الشديد بالسرعة الخاطفة في التنفيذ؛ فلا يدعُ لعدوِّه مجالًا للتأهُّب والاستعداد، وذات مرَّة سأله أحد القضاة: أين تقصد بجيوشك؟ فأجابه الفاتح: (لو أن شعرة في لحيتي عرفت ذلك لنتفتُها وقذفتُ بها في النار).
شؤون الدولة
في العدل..إن إقامة العدل بين الناس كان من واجبات السلاطين العثمانيين، وكان السلطان محمد شأنه في ذلك شأن من سلف من آبائه – شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دولته، ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والتطواف في أنحاء الدولة، ويمنحهم مرسوماً مكتوباً يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والاستقصاء لكي يطلعوا كيف تساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم، وقد أعطى هؤلاء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل ما يرون ثم يرفعون ذلك كله إلى السلطان
في التعليم قام بتنظيم المدارس وترتيبها على درجات ومراحل، ووضع لها المناهج، وحدد العلوم والمواد التي تُدرّس في كل مرحلة، ووضع لها نظام الامتحانات الدقيقة للانتقال للمرحلة التي تليها، وكان ربما يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ولا يأنف من سماع الدروس التي يلقيها الأساتذة، ولا يبخل بالعطاء للنابغين من الأساتذة والطلبة، وجعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان. وكانت تدرس العلوم الشرعية والدنيوية كالهندسة، الفلك، اللغات والرياضيات..إلخ
في الأدب ومما لا يعلمه الكثيرون أن الفاتح كان أول شاعر سلطاني يكتب الشعر تحت اسم مستعار وكتب ديوانا أغلبه في الغزل غاية في الروعة، وكان في قصره 30 شاعراً كما
في الترجمة أتقن اللغة اليونانية وست لغات أخرى عندما كان بلغ من العمر 21 عاماً، أي في السنة التي فتح فيها القسطنطينية، وأمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية
ومما استوقفني تركيزه على الجانب الطبي فقد اهتم بدور الشفاء، ووضع لها نظاماً مثالياً في غاية الروعة والدقة والجمال، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب – ثم زيد إلى اثنين – من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين، وكان يُشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ووجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وأن لاتصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم.
في التشييد كما كان السلطان محمد الفاتح مغرماً ببناء المعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة. شجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاء ورونقاً، واهتم بالعاصمة "إسلامبول" اهتماماً خاصاً، وكان حريصاً على أن يجعلها "أجمل عواصم العالم" و"حاضرة العلوم والفنون".
أما في الجانب الاقتصادي وقد اهتم بالجانب الاقتصادي وأولاه أهمية بالغة فكان من أثر السياسة العامة للدولة في مجال التجارة والصناعة أن عم الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء الدولة، وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة، ولم تهمل الدولة إنشاء دور الصناعة ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقامت القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية في البلاد
وفاته
في شهر ربيع الأول من عام 886هـ= 1481م، غادر السلطان الفاتح القسطنطينية على رأس جيش كبير، وكان السلطان محمد الفاتح قبل خروجه قد أصابته وعكة صحيَّة، إلَّا أنه لم يهتمّ بذلك لشدَّة حُبِّه للجهاد، وشوقه الدائم للغزو، وخرج بقيادة جيشه بنفسه، وقد كان من عادته أن يجد في خوض غمار المعارك شفاءً لما يُلِمُّ به من أمراض، إلَّا أن المرض تضاعف عليه هذه المرَّة، وثقلت وطأته فطلب أطباءه، غير أن القضاء عاجله؛ فلم ينفع فيه تطبيب ولا دواء، ومات السلطان الفاتح وسط جيشه يوم الخميس (4 من ربيع الأول 886هـ= 3 من مايو 1481م)، وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم إحدى وثلاثين عامًا.
ويقال إن السلطان محمد الفاتح قد قُتل بالسم عن طريق طبيبه الخاص يعقوب باشا بعد أن حرضه أهل البندقية على أن يقوم هو باغتياله، ولم يكن يعقوب مسلمًا عند الولادة، فقد وُلِدَ بإيطاليا، وقد ادَّعى الهداية وأسلم، وبدأ يعقوب يدسُّ السُّمَّ تدريجيًّا للسلطان، ولكن عندما علم بأمر الحملة زاد جرعة السمِّ؛ حتى توفي السلطان، اكتشف أمر يعقوب فيما بعدُ، فأعدمه حرس السلطان، ووصل خبر موت السلطان إلى البندقية بعد 16 يومًا؛ حيث جاء الخبر في رسالة البريد السياسي إلى سفارة البندقية في القسطنطينية، واحتوت الرسالة على هذه الجملة: (لقد مات النسر الكبير) انتشر الخبر في البندقية ثم إلى باقي أوربا، وراحت الكنائس في أوربا تدقُّ أجراسها لمدَّة ثلاثة أيام بأمر من البابا».
ووصى ولد بايزيد الثاني، خليفته، قبل وفاته قائلًا: «خذ منِّي هذه العبرة: حضرتُ هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، واحذ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله، ولا تصرف أموال الدولة في ترفٍ أو لهوٍ أو أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ اللزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك».

نِعم الأمير أنت يا محمد.. رحمة الله عليك يا صاحب بشارة رسول الله



*ورد في مسند أحمد بن حنبل في الحديث رقم 18189:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ


 الكاتب: جباري محمد ح

المصادر:  
"فاتح القسطنطينية.. السلطان محمد الفاتح" تأليف علي محمد محمد الصلابي
"مائة من عظماء الاسلام غيروا مجرى التاريخ" تأليف جهاد الترباني
ويكيبيديا الموسوعة الحرة -انترنت- 

محمد الفاتح، صاحب البشارة والنسر الكبير

Read More

Copyright © 2014 Faeda فائدة | Designed With By Blogger Templates
Scroll To Top