Tuesday, August 2, 2016

مالك بن نبيّ يُبعَث من جديد

   


كثيرا ما نسمع عبارة "فلان سابق لعصره" كتعبير عن فطنته وذكائه المتّقد، كونه ناقش مسائل لم تكن معروفة للناس حينها، أو طرح تصوّراته لتفسيرات وحلول لمشكل معيّن في زمن ما، فانفضّ الناس من حوله هذا ان التفتوا له أصلاً، لتثبت الأيام بعدها أنه كان عبقريا حقًّا وهم الذين لم يفهموه ولم يقدروه حق قدره.. هؤلاء العظماء كُثرٌ في التاريخ الإنساني بل أغلب العظماء ذلك شأنهم وربما كان أعظمهم أرسطو، ذلك الفيلسوف اليوناني الفريد.

من طينة هؤلاء الأفذاذ كان ابن مدينة الجسور المعلّقة "قسنطينة" الجزائريّة 'مالك بن نبي' (1905-1973م) أو "فيلسوف الانسان والحضارة" كما يحلو للبعض تسميته. هو أحد أبرز روّاد النّهضة الفكريّة الإسلامية في القرن العشرين (20) ويُعدّ الفكر البنّابي امتداداً لفكر المنارة الشّامخة ابن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة.

لنلق نظرة على ميزة مالك بمنظوره هو كما يرويه في مذكّراته "مذكرات شاهد للقرن" فيقول: « كان مولدي بالجزائر 1905 في زمن يمكن فيه الاتّصال بالماضي عن طريق آخر من بقي حيا من شهوده، والإطلال على المستقبل عبر الأوائل من روّاده » فهو يمكن القول أنه مخضرم عاش فترة البطش الفرنسي بالشعب الجزائري الذي كان يئنّ تحت وطأة الاستدمار ولاقى خلالها الويلات، كما شهد الارتدادات الأولى لصرخة جمال الدين الأفغاني التي مزّقت حجب الظلام التي دثّرت العالم الإسلامي ككلّ والجزائر خاصّة.. لكنه عاش أيضا عايش الثّورة التحريرية المباركة ودعمها بالقلم والقلب قبله، واكتحلت عيناه برؤية الجزائر حرّة مستقلة. لنسمع مفكّرنا وفيلسوفنا يصف مِفصلًا يراه أساسيا في تاريخنا الاسلامي -من كتابه شروط النهضة- « ففي هدأة الليل، وفي سبات الأمة الاسلامية العميق، انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حيّ على الفلاح!   فكان رجعهُ في كلّ مكان، إنّه صوت "جمال الدّين الأفغاني" موقظ هذه الأمة. هي نهضة جديدة ويوم جديد». فكأنّ ذلك النّداء الخالد قد حرّك في نفس المراهق ذلك السؤال الذي طالما أرّق كبار المفكرين العرب والمسلمين كأمير البيان شكيب أرسلان والإمام الغزالي والكواكبي وبيغوفتش "لماذا آل الوضع لهذا السقوط المريع؟ أو لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وكيف السبيل لإعادة ضبط البوصلة لنقفز مجددا لمسرح التاريخ؟" فكان توجه ابن الكُتّاب المُعدَم إلى التأمّل والكتاب والبحثِ الدؤوب، فكانت بداية لرحلة قادته لسبر أغوار عديد المؤلفات الغربيّة والاسلاميّة في الفلسفة والعلوم الانسانية فكشف خباياها وظواهرها، مزاياها ونقائصها، لبّها وقشورها. وقد كان من أقدار الله تقدّم صاحب مؤلّف "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" إلى معهد الدراسات الشرقية بباريس الذي كانت تحت إشراف المستشرق الفرنسي العنصري لويس ماسينيون عرّاب السياسة الاستعمارية الفرنسية الذي رفض قبول ابن نبي لكونه يحمل مفاهيم عميقة ورؤى أصيلة متشرّبة لروح القرآن تناقش قضايا هامة كالإنسان والحضارة خصوصا كونها تنأى بنفسها عن التّبعية المطلقة لمبادئ ومعايير الفكر الأوربي، ذلك الطرد كان بداية لتحدّ ومعركة مريرة خاضها مالك ضد السّلطات الاستعمارية حتى نهاية حياته. شاءت الأقدار أيضا أن يدفع ذلك الطّرد مالك لدراسة الهندسة الكهربائية، التي وبعد تخرّجه لم يستطع العمل بها بسبب تضييق السلطات الاستعمارية، فتفرّغ للكتابة و عالم الأفكار وصناعتها، هنا بدا تأثير دراسته العلميّة جليّا في كتاباته التي امتازت عن غيرها بإخضاعها علوم الاجتماع، علم النّفس والسياسة وغيرها من علوم إنسانية لقوانين رياضيّة وفيزيائيّة محضة، فكان مخبره مليئا بعينات تجارب إنسانية متباينة وأنابيب الأفكار المنتقاة من كتب التاريخ، منتجا بذلك معادلات تشبه تلك المعادلات الكيميائية، كانت تبسيطا لأفكاره المعقدة والدقيقة، دمجٌ أخرج للنور فكراً متسقاً متماسكاً منطقياً إلى أبعد حدّ أدركت إدارة شؤون المستعمرات تأثيره إن هو انتشر في المستعمرات، فزادت من ضغطها عليه ليخرج من فرنسا إلى مصر ليُكمل مسيرةَ قلم أبى التراجع عمّا آمن به حتى النخاع.

كتب تلميذ ابن خلدون حوالي 30 مؤلفاً -بالفرنسية والعربية- في سلسلة تحت عنوان "مشكلات الحضارة" نذكر منها:"شروط النهضة"، "الظاهرة القرآنية"، "مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي" و"وجهة العالم الاسلامي".. من اللّافت أيضاً في قصة مالك أنه عرف أنه "سابق لعصره" حقاً! فهو القائل قبل وفاته « سأعود بعد ثلاثين سنةً، وسيفهمني الناس ». وهاهو فعلاً بعد أربعين سنة ونيّف يطفو الفكر البنّابي على السطح مجدداً وتعود كُتبه للتّداول من يدٍ ليدٍ، وأفكاره لتطرح وتناقش بين الشباب المسلم بعد كلّ هذه العقود! ما سرّ عدم موت أفكاره؟! ربما لأنّه أدرك حينها أن مشاكلنا لن تُحلّ بتلك الطرق السقيمة كَون « الحضارة هي التي تلد منتجاتها وليس العكس »  كما كان يردد دائما، أي أنّ استيراد الأفكار المَيّتة والمُمِيتة والسّلع المتنوعة لن يبني حضارة أبداً! بل تولد الحضارة من رحم الأفكار العظيمة المنبثقة من تراث الأمة الأصيل وواقعها المعاش وهي -أي الحضارة- التي تنتج الوسائل وتواجه المشاكل حينئذٍ.

0 comments:

Post a Comment

Copyright © 2014 Faeda فائدة | Designed With By Blogger Templates
Scroll To Top